"أدرك" بعض الفلسطينيين مؤخراً أن الولايات المتحدة منحازة إلى جانب إسرائيل. فقد اختفى الحديث اللطيف المُنمَّق الذي كان ينطق به الرئيس الأميركي باراك أوباما، وذهبت النشوة التي أعقبت خطابه "لتمهيد الأرضية" في جامعة القاهرة. و لكن هناك أيضا من "اكتشف" فجأة أهمية الدور الأميركي وأنه لابد من التواصل مع الإدارة الأميركية حتى ولو عبر رسائل موجهة للرئيس الأمريكي الذي يرفض قراءتها!
باختصار... اكتشفنا أننا قد عدنا إلى المربع الأول.
تستند فلسفة الهيمنة السياسية الأميركية إلى إطلاق الحكم على الفكرة انطلاقاً من نتائجها وليس مسبباتها. ويتركز الاهتمام على الصلة بين صواب التصريحات وبين إمكانية تطبيقها العملي بمعيار واحد فقط: كيف ستعمل تلك التصريحات لصالح أميركا؟ هذه ببساطة هي النزعة البراغماتية الأميركية. ويعني هذا أن الساسة الأميركيين الليبراليين البيض (بمن فيهم الرئيس أوباما) يهتمون بوظيفة الأفكار والتصريحات وآثارها، أكثر من اهتمامهم بمصادرها وظروف إصدارها.
إن "إمكانية التطبيق" و"العملية" (Practicality) هي الأسس التي يتم بها تمرير المواقف التي تتخذها المؤسسة الأميركية. ومع ذلك، لا يأخذ ذلك في الحسبان طبيعة الظروف التي تجعل من تلك المواقف "ممكنة التطبيق"، لا تاريخياً ولا اجتماعياً. وتكون الفكرة كما يأتي: إن ما نريده نحن" الليبراليين الأميركيين البيض"، هو أمر مبرر، وبالتالي مشروع، بما أنه "قابل للتطبيق" و"عملي"، بغض النظر عن الوسائل التي سيتحقق بها. وهكذا، يمكن لأمور مثل الفصل العنصري (الأبارتيد)، والصهيونية، والاحتلال الأميركي للعراق أن تُبرَّر "بسهولة"، وأن تُباع للمواطنين المُشبعين حتى العظم بدعاية محطات "سي إن إن" و" فوكس نيوز".
تشكّل سياسة السيد أوباما، وسياسة وزير خارجيته أيضاً، إعادة إنتاج لأفكار النزعة البراغماتية الأميركية القديمة، والتي أعيدت صياغتها النظرية بحيث تناسب توقعات ساسة الطبقة الوسطى الليبرالية للمجتمع الرأسمالي الأميركي المتأخر، ولو أنها جاءت بقناع أسود هذه المرة.
مما لا شك فيه أن هذه النزعة البراغماتية الأميركية تجد جذورها في الفهم الأوروبي المتمركز على الذات للديمقراطية الليبرالية، والتي تستغل فكرة امتلاء الدول الديمقراطية الغربية نفسها بالناس الذين يمكن إقناعهم بالتصويت، بطرق متعارضة تماماً مع مصالحهم الحقيقية بعيدة المدى، إذا كان بالوسع خداعهم، باستخدام الخطابة الليبرالية، لاختيار الأهداف قصيرة المدى. وبعبارة أخرى، فإنه بالوسع استغلال الناس وإغواءهم بأن "يختاروا بحرية" مما يتناقض بكل وضوح مع مصالحهم الذاتية الحقيقية نفسها. وبغير ذلك، ما كان الإسرائيليون لينتخبوا نتنياهو وليبرمان لتولي السلطة. وهكذا تتلاقح الليبرالية البرجوازية والليبرالية الجديدة، وتقومان معاً بتهجين المجتمع بذرائع مختلطة، في حين تتجنبان النقد الراديكالي الأشمل والمطلوب لخلق مجتمع أصيل، وبالتالي إنجاز التغيير السياسي.
تكشف التحليلات الاجتماعية ـ التاريخية لمثل هذه المجتمعات عن أن الأغنياء يتمتعون بالقوة، وأنهم قد ابتكروا طرقاً لجعل ما يمتلكونه مشروعاً، وكيف أنهم يستخدمون ويستغلون، بطريقة قانونية، جهد الطبقة العاملة والبلدان الأفقر. وهم يضفون المشروعية على مثل هذه المكاسب غير العادلة باستخدام قوانين تحميها المؤسسات، قوانين تتجاوب، ظاهرياً، مع الصالح العام، وتقنع قطاعاً كبيراً من المجتمع بالتصويت ضد مصالحه الخاصة. وقد تم انتخاب بوش مرتين على الرغم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إدارته في أفغانستان والعراق. وكما يقول بعض المفكرين ذوي العقل النقدي، فإن الأصوات الانتخابية في المجتمع الليبرالي المعاصر لا تُمنح لكل شخص، كما يفترض بها أن تكون، وإنما لكل دولار، وهو ما يضمن ناتجاً غير ديمقراطي. ولمزيد من الإيضاح، فإن التصويت في الانتخابات لا يضمن حرية الفرد في أن يختار ممثله وفقاً لمصالحه الخاصة. وإنما أصبح التصويت، بدلاً من ذلك، جزءاً من نظام قررت قواعده الطبقة البرجوازية القوية في إطار محاولاتها استيعاب الطبقة المناقضة، أي الطبقة العاملة. ولم يحدث أبداً أن يتم توفير "الحق الإنساني" في الاختيار الحر للشعوب المستعمرة حتى تختار ممثليها في ظل النظام الكولنيالي "الليبرالي". وقد شارك الكثيرون من الجنوب أفارقة البيض "بحرية" في اختيار نظام قمعي عنصري، استطاع كسب الشرعية بفضل مشاركة "الليبراليين" في البرلمان. وينطبق الأمر نفسه على نظام الفصل العنصري في إسرائيل.
ثمة سؤال مهم يظهر هنا: كيف يستطيع كل فرد أن يمتلك مثل هذه الحقوق عندما تكون كل المكاسب الاجتماعية الأساسية (بما فيها الدخل والثروة) موزعة بشكل غير متساو؟ إن الحرية الليبرالية البرجوازية القائمة على"السلام" و"الثروة" و"الحرية" (الاستغلال لا يذكر مطلقاً) هي الإجابة التي تقدمها لنا أميركا، وهي إجابة تستبعد الوعي التاريخي؛ أو هي بالأحرى، إجابة تتطلب فقدان الذاكرة السياسية والتاريخية. إنها إجابة تمزج بين أيديولوجيتين: الرأسمالية، والديمقراطية الليبرالية.
هل نستطيع، مع ذلك، تجاهل الحقيقة التاريخية القائلة بأن أساس المجتمع الليبرالي المعاصر كان ثورة دموية، أي "الثورة الفرنسية"؟ وماذا عن الثورة الأميركية نفسها؟ هل هناك "صحافة حرة" حقيقية، و"ورأي عام مستنير" يمكن أن يطلب الفلسطينيون منهما الاعتراف بالهول والمعاناة التي يتم إيقاعها بنا؟ وبعبارات أخرى، ألم يكن الإعلام الأميركي السائد هو الذي ضلل الرأي العام حول قضايا مثل الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ونيكاراغوا، وتشيلي، واغتيال لومومبا وأليندي، والدعم الذي منح لموبوتو و الشاه الأيراني والأنظمة الرجعية الأخرى في أفريقيا والشرق الأوسط؟ والآن، القضية الفلسطينية؟
يلعب "الإقناع" إذن، من وجهة نظر براغماتية، دوراً أساسياً في خلق المجتمع الليبرالي. ويشكل الإقناع، تقنياً، الوسيلة التي يصل بها المرء إلى "التعددية" التي لا يكون فيها أي استثناء للأفكار من أي نوع. ومع ذلك، ومن هذا المنظور، فإن وجهات النظر الراديكالية أو المعارِضة ينبغي أن تعمل من داخل النظام البرجوازي الليبرالي بوصفه النظام الوحيد "الشرعي" الموجود. ويفضي رفض النظام وأسسه الأيديولوجية عن طريق كشف ومعارضة خصائصه الاستغلالية إلى"نزع الشرعية" والإقصاء. وبكلمات أخرى، إذا لم يكن المرء "مقتنعاً" بمنطق التدخل الأميركي في العالم العربي وأفغانستان، فإنه سيظل عليه أن يقبل بهما؛ وبغير ذلك، يُعد المرء "غير ديمقراطي"، حتى لو كان مئات الآلاف من المدنيين يُقتلون بسبب مثل هذا التدخل.
وبناء عليه، فإن "الإقناع" الليبرالي، ليس سوى "اتصال مُشوَّه ومُحرّف" ينطوي على القبول بوجهات نظر أولئك الذين يملكون القدرة على التهجين و"الإقناع" في مملكة المعرفة/السلطة. ليست هذه الأطروحة رفضاً للديمقراطية مع ذلك، وإنما هي رفض للأسس الاستغلالية لليبرالية والبراغماتية التي تصر على اختزال أي رأي راديكالي آخر إلى "واحد منا" ضمن منطقة "التعددية البرجوازية".
لعل ما يتم تجنبه دائماً عند الحديث الجدي عن الأيديولوجيا الأميركية السائدة هو أن أساس المجتمعات الرأسمالية الليبرالية المعاصرة قد تحقق من خلال استغلال ملايين العمال، وموت الملايين من سكان البلاد المستعمرة الأصليين، والقتل الوحشي لملايين أخرى في حربين عالميتين. وتبعا للمنطق البراغماتي الأميركي، لماذا الإصرار على إعادة 6 ملايين لاجئ فلسطيني. ولماذا نتأسف على موت أكثر من 1500 مدني، بمن فيهم 434 طفلاً، خلال مذبحة غزة الأخيرة؟
لدى مقارنة ما يدعوه "الوعي الظرفي" لـ"العالمين الأول والثالث"، حسب مفهوم ديالكتيك السيد/العبد عند هيغل، يقول المفكر الأميركي النقدي فريدريك جيمسون إن "العبد يعرف ما هو الواقع ومسألة المقاومة حقاً، في حين يظل السيد محكوماً بقدر الخضوع للنزعة المثالية" .وبناء على هذا التحليل الهيغلي، يستنتج جيمسون:
"لعل مما يصيبني بالصدمة أننا نحن الأميركيين، نحن سادة العالم، نقف ذلك الموقف نفسه بشكل ما. إن المشهد من القمة يتسبب بالشلل على المستوى الإبستمولوجي (المعرفي) وهو يُخضِع موضوعاته لأوهام مجموعة من الذاتيات المتشظية، وإلى فقر الخبرة الفردية التي تسم البدو الرحّل المعزولين... هذه الفردية التي بلا مكان، وتوفر لنا هذه المثالية البنيوية ترف التمتع بالوميض السارتري (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي سارتر)، وتوفّر لنا مهرباً يحظى بالترحيب من "كابوس التاريخ"، لكنها تدين في الوقت نفسه ثقافتنا القائمة على نزعة الانغماس النفسي، وعلى "الاستبصارات" الذاتانية الخاصة. وكل هذا يظل منكراً على ثقافة العالم الثالث التي ينبغي أن تظل ظرفية ومادية...."
هذا هو بالضبط ما تدور حوله كل السياسة الأميركية ـ سياسة قوامها الهيمنة والمصالح. أي أنها انعكاس لأيديولوجيا طبقة مخصوصة ذات مصالح مخصوصة، مقدمة بمنظور معين. أي البراغماتية البيضاء، الليبرالية الجديدة.
يتطابق "الخطاب السياسي القوي" الأميركي بشكل مثالي مع مفاهيم الليبرالية الجديدة. وتعود قوتهما إلى حقيقة أنهما يمتلكان إلى جانبهما كل القوى في عالم تحكمه علاقات القوة، في عالم تسهمان عملياً في جعله كذلك. إن الفلسطينيين، مثلهم مثل الأميركيين الأصليين، هم "سكان فائضون "، مثل السود في جنوب أفريقيا، "متوحشون بلا قوة وعديمو النفع". امنحوهم بانتوستاناً، محاطاً بالجدران (الجدار)، حيث لا يجب على "حلفائنا (نحن)" رؤيتهم؛ امنحوهم بانتوستاناً يُسمح لهم بأن يسمّوه دولة مستقلة وقابلة للحياة. فبعد كل شيء، أي مواطن أميركي يعرف الفرق بين فلسطين (Palestine) و الباكستان (Pakistan)!
لا حاجة إذن إلى التعجب من السبب في أن السيد أوباما ووزير خارجيته جون كيري و كل من يعمل في البيت الأبيض ووزارة الخارجية يكنون لنا الكراهية. إننا لسنا أنداداً للأشكناز البيض الأقوياء وأصحاب الحق في ممارسة الحكم. خلال حرب سنة 1967، لاحظ المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن الأميركيين ظلوا يسألون: "كيف تجري أحوالنا، كيف نبلي؟ "?How are WE doing" ولسنا نحن، العرب والفلسطينيون، جزءاً من تلك الـ"نحن". إننا "هم"، "الآخر". إننا نحتل جزءاً مما قد يسميه فريدريك جيمسون "اللاوعي السياسي" الأميركي. إن موتنا لا أهمية له ولا يدخل أبداً في الحساب؛ ويبقى موت نصف مليون طفل عراقي بسبب العقوبات الاقتصادية، مثله مثل موت 434 طفل فلسطيني خلال مذبحة غزة، مجرد "ضرر جانبي " Collateral Damage، في حين يعد ضحايا أحداث 11/9 أفراداً ذوي عائلات، وأسماء، و"روايات قوية".
و هكذا يمكن الاستنتاج أن سياسة السيد باراك أوباما، و وزير خارجيته كيري، و"مندوبه السامي" الجنرال بول بشونغ، ما هي الا إعادة إنتاج لأفكار النزعة البراغماتية الأميركية القديمة، والتي أعيدت صياغتها النظرية بحيث تناسب توقعات ساسة الطبقة الوسطى الليبرالية للمجتمع الرأسمالي الأميركي المتأخر، بغض النظر عن المؤتمرات الصحفية المشتركة والابتسامات في البيت الأبيض، وحتى الرسائل الودية والوعود الكبيرة. باختصار: أمريكا الرسمية لا تحبنا، فماذا نحن فاعلون؟!